بعد سبعين سنة من بداية الصراع العربي - الصهيوني مضت منها أربعون على اغتصاب جزء من فلسطين بإقامة الكيان الاسرائيلي، وعشرون سنة أخرى على احتلال ما تبقى منها، مع أجزاء من أراضي عربية أخرى، وبعد أربع وعشرين سنة على قيام م.ت.ف والمنظمات الفلسطينية الفدائية، شهدت كفاحاً مسلحاً عبر الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة وما كان حولها وانتهت باجتياح اسرائيل للبنان واحتلال جزء من جنوبه ورحيل قوات منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وقيادتها من لبنان، وبعد ست سنوات على هذا الرحيل، عانت خلالها م.ت.ف وجماهير الشعب الفلسطيني، وبخاصة في لبنان، من جملة مآزق وازمات وصلت حدود التقاتل العربي- العربي، وانقسام فصائل الثورة بعضها على بعض، في ظل أجواء انحسر فيها التيار القومي العربي الى شطآن -القطرية- المفرطة ومنزلقات- الطائفية المذهبية بعد هذا كله، وبالرغم من هذا كله، نهض الشعب الفلسطيني وبادر من جديد، ومن فوق تراب وطنه المحتل، بانتفاضة ثورية جديدة، مستوعباً لكل دروس التجارب النضالية السابقة وغيرها، عربياً وفلسطينياً، ومدركاً لكل ما أفرزته تجارب الصراع ضد اسرائيل من وقائع وما كشفته من حقائق، مسلّحة بهذا الوعي، تمكنت الانتفاضة منذ بدايتها، بما حددته من أهداف واضحة وبما أبدعته من أساليب نضالية لتحقيق هذه الأهداف من تأكيد قدرتها على الاستمرار والنمو كحقيقة ثورية ميدانية، تستطيع فرض واقع جديد على مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وعلى مسار م.ت.ف بشكل خاص، فلا تهويل في أهدافها ولا وعود بما لا تملك القدرة على إنجازه، حتى لو كان ذلك حقاً، فلكل حق شروطه ومتطلباته حتى يتم استيفاؤه، ولا تحريف في أهدافها حول كل ما هو أساسي وثابت ومعترف بشرعيته من حقوق، كحق تقرير المصير، والعيش الحر في دولة مستقلة حرة كذلك كانت الانتفاضة واضحة في أساليبها النضالية، والتي استلهمتها من واقع شعبها وموقعه، ومما تسمح به إمكانيات هذا الشعب وطبيعة هذا الموقع، بعيداً عن تقليد أو محاكاة ثورات غيرها من الشعوب ومن دون مغالاة في الاعتماد على دعم خارجي يتحكم فيها، فالشعب كل الشعب هو أداة الانتفاضة، وتنظيماته طلائع له، وليست بديله عنه. والحجر هو سلاحها، وأمضى ما فيه يكمن فيما يرمز إليه من إصرار لا رجعة عنه في مقاومة الاحتلال، وتحت كل الظروف مهما كان الفارق في موازين القوى فالتاريخ يشهد أن التفوق في الإرادة كفيل في النهاية بانتزاع النصر من التفوق في القوة لا شك أن هذا الوضوح في الأهداف والأساليب كان من أهم الأسباب التي عبأت الشعب حول الانتفاضة فدفعته ولا تزال الى تقديم أروع صور النضال، غير آبه بالتضحيات، كما جعلت من العام 1988، عام الانتفاضة فشغلت العالم وأثارت تعاطفه معه، وشدت العرب على طريق التضامن، وردت للقضية الفلسطينية مكانتها، وكرست م.ت.ف من جديد ومن موقع ميداني ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعب فلسطين، فلم يمض على اندلاع شرارتها أكثر من سبعة أشهر، عندما أعلن الأردن عن فك الروابط القانونية والإدارية بين المملكة الأردنية والضفة الغربية المحتلة، وأوقف جميع مشروعات التنمية التي كان يعدها هناك، وحل جميع المؤسسات التابعة لها، ويعتبر هذا إنجازاً هاماً للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، ومن أهم إنجازاتها السياسية وتحويل هذا الانجاز الى قوة دفع جديدة للنضال الفلسطيني ولهذه الانتفاضة بالذات.
وبعد مضي أكثر من مئة يوم على الحوارات والتحركات والاتصالات تمكنت قيادة م.ت.ف من وضع تصورها السياسي المستقبلي، وحددت الثاني عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، موعداً لعقد دورة طارئة للمجلس الوطني الفلسطيني، لمناقشة هذا التصور وإقراره.
وسميت هذه الدورة بدورة "الانتفاضة" وفي الساعة الصفر والدقيقة الأربعين بتوقيت القدس الشريف، من يوم الثلاثاء الواقع في السادس من ربيع الثاني 1409 للهجرة الموافق للخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، تم اتخاذ أهم قرار سياسي في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها ألا وهو إقرار " وثيقة الاستقلال " بالإجماع، كما أقر المجلس بأغلبية أصوات أعضائه البرنامج السياسي لإنجاز هذا الهدف وتمكين هذه الدولة من ممارسة سلطتها الفعلية على أرضها.
واستندت "وثيقة الاستقلال" قيام دولة فلسطين الى الحق الطبيعي التاريخي والقانوني للشعب العربي لفلسطيني في وطنه فلسطين وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعاً عن حرية وطنهم واستقلاله وانطلاقاً من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947. ولم يفت وثيقة الاستقلال عند إيرادها للسند القانوني أن تشير الى "الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني بتشريده وبحرمانه من حق تقري المصير، إثر قرار الجمعية العامة (للأمم المتحدة) رقم 181 لعام 1947 الذي قسم فلسطين الى دولتين، عربية ويهودية، ثم أضافت أن هذا القرار "ما يزال يوفر شروطاً للشرعية الدولية، تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال ".
وقد دعمت الانتفاضة هذا التحول، بما عبرت عنه جماهيرها من تظاهرات التأييد وبما صدر عن قيادتها الوطنية الموحدة من نداءات رحبت بوثيقة الاستقلال واعتبرتها خطوة مهمة على طريق إنجاز الاستقلال الوطني، ولشهادة الانتفاضة وزنها ليس لكونها من أهم مراكز التأثير في صنع القرار الفلسطيني فحسب، بل لكونها كذلك، فكراً وتنظيماً، من نتاج ذلك المسلسل الطويل لعملية الصراع العربي الفلسطيني ضد اسرائيل وما نجم عنها من متغيرات فالانتفاضة علامة فارقة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وتاريخ م.ت.ف بالذات، فصلت بين ما قبلها وبعدها، بهذا التحول في المسيرة من حركة تحرير وطني الى حركة استقلال وطني.
ولم تأت الانتفاضة الجماهيرية العارمة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بشكل عفوي أو آني، ولم يكن حادث معبر بيت حانون "إيرز سابقاً " عند مدخل قطاع غزة والذي راح ضحيته أربعة شهداء، وسبعة جرحى آخرين، نتيجة صدمهم بسيارة عسكرية احتلالية حادثاً قدرياً لعبت الصدفة ملعبها في أحداثه، إنها حالة عداء تمتد الى أكثر من أربعين عاماً مضت وستمتد حتى تحقيق قيام الدولة المستقلة للشعب الفلسطيني الذي أنشئت على أرضه إسرائيل، لقد توجت الانتفاضة الفلسطينية أعواماً من النضال والكفاح لتختصر كل أنواع الإرهاب والقمع والبطش الاسرائيلي عبر رفض الشعب الفلسطيني للاحتلال ومناداته بأعلى صوته بسقوطه، وجاء عام 1988 كما قال عنه السيد الرئيس/ ياسر عرفات هو عام البشرى فإن هذه الانتفاضة الكبيرة بشهدائها وجرحاها ومعتقليها هم رسل هذه البشرى، وهي الخطوة الأولى على طريق إنهاء الاحتلال وطرده وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، التي هي الحل الوحيد للمأزق الإسرائيلي مثلما هي للمأزق الفلسطيني.
إن مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي ليست حديثة النشأة ولم تبدأ مع انطلاقة الشرارة الأولى للانتفاضة في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الثامن من كانون الأول "ديسمبر" وهذه الحقيقة لا تضع الانتفاضة على قدم المساواة مع أعمال وأشكال المقاومة والرفض للاحتلال السابقة لها، وإنما لتأكيد أن تراكمات النضال القومي الفلسطيني على مدى عشرين عاماً من الاحتلال في ذلك الوقت أفضت في النهاية الى الانتفاضة المجيدة.