كانت الغزوة الصهيونية للبنان في العام 1982 وما نجم عنها من نتائج وأثار، حدثاً استراتيجياً في سجل الصراع العربي الاسرائيلي رغم المكابرة ومحاولات التهوين العربية والفلسطينية.
صحيح أن هذه الغزوة لم تحقق ما حلم به قادتها من أهداف، ولكنه صحيح أيضاً أنها فرضت وقائع جديدة على الساحة اللبنانية كان لها أثارها البالغة عربياً وفلسطينياًً، فعربياً كشفت هذه الغزوة مدى الانحسار الذي وصلت إليه الحركة العربية رسمياً وشعبياً، وعجزها عن التحرك لنصرة وطن يجتاح، وعاصمة عربية تحتل، وشعبين عربيين يتعرضان لكل أنواع القتل والافناء فلسطينياً، وبعد رحيل قوات الثورة عن لبنان باتت مقولة التحرير من عبر الحدود موقع شك وتساؤل وهذا يفسر ما طرأ على الساحة اللبنانية من ارباكات سياسية عكست نفسها على مجمل القوى الفاعلة فيها، ووصلت حدود التناقض والصدامات المسلحة، ويفسر كذلك بروز التيار الاسلامي وطروحاته البديلة المختلفة جذرياً عن كل ما سبق من طروحات وطنية وقومية وتقدمية كانت م.ت.ف من أكثر الجهات تأثراً بذلك الحدث الاستراتيجي، إذ وجدت نفسها أمام مشاكل وتحديات جديدة يصعب حلها من دون فعل يكون على مستوى الحدث الذي تعرضت له وكانت مشاكل م.ت.ف وتحدياتها مترابطة، في دوائرها الثلاث الدائرة الفلسطينية الداخلية، أي مسألة الوحدة الوطنية، والدائرة القومية أي علاقاتها مع الدول العربية بشكل عام، ومع سوريا بشكل خاص بحكم الوجود المشترك في لبنان وقضية حرب المخيمات، أما دولياً فلقد قضت م.ت.ف سنوات ما بعد الغزوة في نضال شاق لتعزيز مكانتها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني ورد محاولات شطبها من المعادلة السياسية في أزمة الشرق الأوسط، التي جوهرها قضية فلسطين.
استمرت مواجهة م.ت.ف لمشاكلها والتحديات التي تجابهها على امتداد السنوات الخمس التي تلت الغزوة الصهيونية، بين مد وجزر، دونما أية حلول لها في الوقت الذي كانت فيه أوضاع الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة منذ 1967 قد وصلت حدود الاحتقان الذي يسبق الانفجار، بسبب طول فترة الاحتلال وتزايد الممارسات الارهابية الاسرائيلية.
فمع إطلالة عام 1987، كانت م.ت.ف قد استعادت الكثير من وزنها السياسي، بعد صمودها في حرب المخيمات واستعادة مواقع لها في لبنان، وتصاعد الجهود لاستعادة الوحدة الوطنية، وتعاظم التأييد الشعبي لها في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما كانت م.ت.ف مزودة بحصيلة من القرارات الدولية الداعمة لها، كانت أخر حلقة فيها ما صدر من قرارات عن مؤتمر القمة الإسلامية الذي انعقد في الكويت بين 26-28 كانون الثاني/ يناير 1987، وعزز موقف م.ت.ف كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.
ولقد نشطت منظمة التحرير الفلسطينية في تحركاتها الدولية لدعم مواقفها، وكان من أولوياتها إفشال النشاطات الأمريكية-الاسرائيلية التي كانت تدعو لتسوية عبر مفاوضات مباشرة مع الأردن بمعزل عن م.ت.ف وكان حظ م.ت.ف في هذا المجال هو الاصرار على الدعوة لعقد مؤتمر دولي تشارك فيه بوفد مستقل على قدم المساواة مع الأطراف المعنية الأخرى.
كانت نشاطات م.ت.ف موزعة على عدد من الجبهات:
أولا:ً جبهة المحافل الدولية، كالأمم المتحدة، والتكتلات الدولية، ومنها دول السوق الأوروبية المشتركة.
ثانياً: جبهة المؤتمرات والندوات والمهرجانات التي كانت تنظم في مختلف القارات للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وتعميق الوعي الدولي على ضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام حول قضية فلسطين وأزمة الشرق الأوسط وأهميته، وكان يشارك في هذه النشاطات منظمات غير حكومية، وهيئات إنسانية، ودبلوماسية وإعلاميون ورجال فكر وأدب وفن.
ثالثاُ : جبهة التحركات الدبلوماسية التقليدية واللقاءات الثنائية، والزيارات الرسمية والخاصة.
وتمكنت م.ت.ف من انتزاع جملة من القرارات الدولية، من مختلف هذه الجهات حول قضاياها ومشاكلها المختلفة، ولا سيما في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي نددت فيها بالممارسات القمعية الاسرائيلية التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، مؤكدة أن هذه الممارسات تشكل انتهاكاً للقانون الدولي، وطالبت الجمعية العامة اسرائيل بالاستجابة لمبادئ القانون الدولي والتخلي عن سياسة القمع، ودعتها لإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين الذين زج بهم في السجون بدافع مقاومة الاحتلال، كما نددت الجمعية العامة بأساليب التعذيب الاسرائيلية التي تمارس على المعتقلين السياسيين، مؤكدة أن اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين في وقت الحرب، تنطبق على أهالي الأراضي العربية التي تحتلها اسرائيل منذ العام 1967، كما دعت الجمعية العامة الى عزل اسرائيل ووصفتها بأنها دولة غير محبة للسلام، واعتبرت الإشراف الاسرائيلي على مدينة القدس لاغياً وباطلاً.
ولم تكن دورة الجمعية العامة هذه قد انتهت، عندما انعقد مجلس الأمن الدولي بصورة طارئة، وللبحث في تطورات الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة وذلك بناءً على طلب تقدمت به زيمبابوي بصفتها الرئيس لحركة عدم الانحياز بناءً على طلب من م.ت.ف، وقد دان المجلس بأغلبية 14 صوتاً وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت، إقدام إسرائيل على قتل طلاب فلسطينيين في جامعة بير زيت وجرح آخرين، ودعاها الى الالتزام الحرفي باتفاقية جنيف لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحرب.
ومع أن الجمعية العامة جددت دعوتها، وبأغلبية مطلقة، الى مؤتمر دولي للسلام وطالبت كذلك بتشكيل لجنة تحضيرية للتمهيد لعقد هذا المؤتمر، فإن التحرك الميداني لعقد هذا المؤتمر لم يحقق في العام 1986 أي تقدم في مجابهة الرفض الاسرائيلي المطلق، وشروط الولايات المتحدة التعجيزية، وكما كانت الساحتان الفلسطينية والعربية منشغلتين بما في داخلهما من خلافات، والحرب الإيرانية-العراقية تتصدر الأحداث، فإن الحماسة الأوروبية فترت في تحركها، بل شهدت تراجعاً لدى بعض دول السوق الأوروبية، ولم يبق ثابتاً في موقفه من قضية المؤتمر الدولي، غير الدول الاشتراكية، وبخاصة الاتحاد السوفيتي، الذي عبر مراراً عن ألمه لغياب الوحدة الوطنية الفلسطينية، وانعدام الحد المطلوب من التضامن العربي، كما أن الولايات المتحدة كانت تمر بأزمة فضيحة " إيران- كونترا " التي أفقدت إدارتها الكثير من مصداقيتها، وأصابتها بحرج شديد أمام حلفائها الأوروبيين الذين استشعروا مدى خطورة ما تتعرض له مصالحهم في المنطقة بسبب الحرب العراقية-الإيرانية، ولما كانت حكومة واشنطن قد أضاعت فرصة الاستفادة من "اتفاق عمان " قبل إلغائه فإنها لم تمانع قيام تحرك أوروبي غربي على هذه الجبهة، وكانت بلجيكا تترأس دول السوق في تلك الفترة وكان وزير خارجيتها صريحاً عندما أكد أن بيان البندقية لعام 1980 لايزال يمثل الانطلاق للموقف الأوروبي بشأن الشرق الأوسط، وأن المجلس الوزاري للسوق يدعو مجدداً لانسحاب القوات الاسرائيلية من الأراضي المحتلة عام 1967، وإعطاء الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير، واشراك منظمة التحرير الفلسطينية في مساعي التسوية، وكانت اليونان وأسبانيا في طليعة الدول الأكثر تفهماً لموقف م.ت.ف تليها إيطاليا وفرنسا، أما بريطانيا وبشخص رئيسة وزرائها مارغريت تاتشر، فلقد كانت تقف في أخر الصف الأوروبي حتى لتكاد تكون في موقفها أقرب الى الموقف الأمريكي.
وجاء بيان بروكسل، في 23 شباط/ فبراير1987 داعماً لفكرة عقد المؤتمر الدولي، مما خيب آمال رئيس حكومة اسرائيل "اسحق شامير" الذي كان ولايزال مصراً على رفض المؤتمر الدولي فكرة واسلوباً ومضموناً، وأنعش الى حد ما تطلعات شيمعون بيريز وزير خارجيته الذي كانت دول أوروبا تراهن على إمكانية نجاحه في الانتخابات الاسرائيلية المرتقبة وتسلمه مهام رئاسة الحكومة.
وبانتظار تلك الانتخابات الإسرائيلية وذاك الرهان، استمرت التحركات الدبلوماسية من دون نتائج ذات قيمه، ولا سيما بين الدولتين العظمتين، رغم ما أبدته موسكو من مرونة في إطار علاقاتها الثنائية مع اسرائيل في موضوع هجرة اليهود السوفيت.
وهكذا استمرت عقدتا اعتراف م.ت.ف بقراري مجلس الأمن 242 و338، وتمثيل م.ت.ف بشعب فلسطين في جهود التسوية السياسية، بانتظار معطيات جديدة على الساحتين العربية والدولية وقبل أن يطوى العام 1987 أسابيعه الثلاث الأخيرة، اندلعت انتفاضة الشعب العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة، لتفرض من خلال مستجدات منحى جديداً للمسيرة النضالية الفلسطينية وتحولات عميقة، ولتصبح علامة فارقة في تاريخ قضية فلسطين المعاصر.