استطاع الشعب الفلسطيني أن يبتكر الوسائل القتالية المناسبة لمواجهة جيش الاحتلال الذي بدوره لم يدخر جهداً في كشف هذه الوسائل وقمعها بالطرق الهمجية والإرهابية التي جوبهت بمقاومة فلسطينية وبوسائل قتالية جديدة.
ولقد تجلت حنكة القيادة الفلسطينية ومنذ الأيام الأولى من عمر الانتفاضة بإعطاء تعليمات صارمة بعدم استخدام الأسلحة النارية في هذه المرحلة من الانتفاضة، وذلك بهدف تفويق الفرصة على العدو من اعتبار ذلك مبرراً له لاستخدام آليته العسكرية في تقتيل شعب الانتفاضة، وتركيز القيادة على أهمية استعمال وسائل وأساليب وأدوات الثورة الشعبية، وقد عمدت القيادة الوطنية الموحدة إلى ترشيد السكان لكيفية صنع قنابل المولوتوف والحواجز الممسمرة بواسطة البيانات مطبوعة كانت تقوم اللجان المختصة بتوزيعها جماهيريا، وبواسطة تنظيم حلقات تثقيفية واسعة حول أهمية استعمال السلاح البدائي ضد قوات الاحتلال في تلك المرحلة مستفيدة من تقييم العدو نفسه لأهمية الفعاليات التي تنفذها المقاومة الشعبية وطلائعها والقوات الضرابة بهذا السلاح ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. فقد كان سلاح المقاومة الشعبية كل ما امتلكته الجماهير الفلسطينية من أدوات يمكن استخدامها في الصدام مع قوات الاحتلال الإسرائيلي ومنها:
الحجر:
لقد احتلت الانتفاضة مكانها في ثورات العالم الحديث باسم "ثورة الحجارة" ولا يعقل أن يتصدى الحجر بأيدي الفتيان سلاحا للجيش الإسرائيلي الذي يحاصرهم بدباباته ومدافعه ونيرانه، فما الحجر بسلاح قاتل ولا حامله بمقاتل مدرب، ولذلك فقد كان أكثر أسلحة الانتفاضة شهرة إلا أن أغراض استعماله المتعددة في الانتفاضة وبشكل يومي وعلى الأخص في المصادمات أثناء التظاهرات الصاخبة مع قوات الاحتلال، افقد الحجر ميزة أن يكون سلاحا من أسلحة المقاومة فحسب و إنما أداة فعالة ضد قوات الجيش الإسرائيلي وضد آلياته على رغم أنه كثيراً ما استعمل أيضا لقذف سيارات الجيش والمستوطنين الإسرائيليين، واستخدم أيضا لاقامة الحواجز وإغلاق الطرق وبناء السواتر والمتاريس والكمائن.
الالتحام الشعبي:
اعتمدت الانتفاضة سلاحا جديدا غير مرئي يتمثل في الالتحام الشعبي اللامثيل له برفض الاحتلال، بكل الوسائل الممكنة للتعبير عن الرفض والغضب وهي الوسائل والأدوات التي يمكن وصفها باللاعنفية في معظم الحالات والعنيفة في القليل منها، وقد كانت اصعب المعادلات في مسيرة الانتفاضة أن تحتفظ بوحدتها وان تحقق خطواتها التصعيدية في المجابهة، وفي العصيان المدني، دون التحول إلى انتفاضة مسلحة.
السكين:
أكثر أسلحة المقاومة الشعبية استعمالا بسبب وجوده في كل بيت، وتأثير استخدامه مهم ليس على صعيد فاعلية ما يحدث عنه من قدرة القتل فحسب، وإنما ما يقوم به من تأثير سيكولوجي على نفسية الإسرائيلي الذي يرى أو يعرف أن العسكري الإسرائيلي قد قتل بسكين فيما هو يحمل بندقية آلية متطورة.
الزجاجات الحارقة:
استخدام الزجاجات الفارغة بعد تجهيزها بمواد أولية متفجرة ومشتعلة أحد التقاليد الموروثة في الحرب الشعبية فلقد استعمل الشعب الفلسطيني الزجاجات الفارغة كأحد أسلحة المقاومة منذ وقت مبكر مما مكنه من تطوير كيفية استخدام هذا السلاح من زجاجة حارقة إلى زجاجة متفجرة، والى زجاجة حارقة ومتفجرة معاً.
الحرائق:
مع بداية شهر حزيران/يونيو 1988، ابتدعت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة أسلوبا جديداً في مواجهة سياسة الإرهاب التي تمارسها إسرائيل ضد سكان فلسطين المحتلة وللرد على طريقة التدمير المتعمد التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي للاقتصاد المحلي الفلسطيني بموجب هذه السياسة، والذي بلغ ذروته في أوائل ربيع 1988 حيث أتلفت حقول القمح واقتلعت أشجار الزيتون والحمضيات من مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية، وللرد على هذه السياسة بادرت القيادة الموحدة للانتفاضة بأسلوب جديد في المقاومة الشعبية وهو القيام بفعاليات حرق المرافق والمنشآت الزراعية والصناعية الإسرائيلية بما في ذلك الغابات والمراعي.
المصيدة:
طريقة قديمة كانت تستخدم في الغابة لصيد الحيوانات، وفي حقول الذرة لصيد الثعالب وأبناء آوى، ومع أن هذه الطريقة في الصيد لنفس الهدف تعرفها معظم شعوب العالم إلا أن استخدامها كوسيلة عسكرية في حرب التحرير للآليات فهي ابتكار فلسطيني خلاق يعكس مدى قوة الإصرار الفلسطيني على المقاومة، عن طريق حفر حفرة واسعة قليلاً وعميقة كثيراً، في مساحة ما، من ثلث الشارع الذي يعتقد بأن الدوريات الإسرائيلية ستمر منه ثم تموه بشكل دقيق بعد تغطيتها بالقش وعيدان البوص (القصيب) وفي الثلثين المتبقين من الشارع تقام الحواجز بحيث يصبح المرور من الثلث الذي تتواجد فيه الحفرة المموهة، إجباريا وفي منطقة قريبة من المصيدة تكمن مجموعة من القوات الضاربة بانتظار مرور السيارة العسكرية الإسرائيلية من المصيدة والوقوع في الحفرة، حيث ينهالون عليها بالزجاجات الحارقة والحجارة والكرات الحديدية فتحترق السيارة ويصاب من بداخلها.
سلاح العوائق:
وهو استخدام المسامير ضد حركة السيارات الإسرائيلية ليلاً وقد أعطي هذا السلاح نتائج أولية لا بأس بها سوء من خلال غرسه في الطرق مباشرة بعد نزع طبعاته، أو من خلال زرعه في حبات البطاطا ونشرها على الطرق أو دق المسامير الكبيرة في قطع خشبية وتوزيعها على مسافات متفاوتة من الطريق أو بواسطة وضعها في قطاع أنابيب الري البلاستكية السوداء، وقد قادت التجربة القوات الضاربة إلى إمكانية توظيف المسامير مع الإطارات المشتعلة وبقع الزيت للقيام بعملية مقاومة واحدة وفق ما اصطلح على تسميته بسلاح العوائق واستخدم هذا السلاح ضد السيارات العسكرية الإسرائيلية.
وإلى جانب هذه الأسلحة المذكورة، استخدمت القوات الضاربة العصي والمعاول، والمناجل والفؤوس، وما في حوزة البعض من سيوف قديمة، ومناجل وشباري ونبابيت، كما استخدمت القضبان والسلاسل الحديدية، واستخدمت قطع بقايا الحديد والكرات الحديدية، بنفس طريقة استخدام الحجر، ومن الأسلحة الهامة في الانتفاضة المقلاع والمطيطة ونصال الرماح.
بعد هذا كله، وبالرغم من هذا كله، نهض الشعب الفلسطيني وبادر من جديد، ومن فوق تراب وطنه المحتل، بانتفاضة ثورية جديدة، مستوعباً لكل دروس التجارب النضالية السابقة وغيرها، عربياً وفلسطينياً، ومدركاً لكل ما أفرزته تجارب الصراع ضد اسرائيل من وقائع وما كشفته من حقائق، مسلّحة بهذا الوعي، تمكنت الانتفاضة منذ بدايتها، بما حددته من أهداف واضحة وبما أبدعته من أساليب نضالية لتحقيق هذه الأهداف من تأكيد قدرتها على الاستمرار والنمو كحقيقة ثورية ميدانية، تستطيع فرض واقع جديد على مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وعلى مسار م.ت.ف بشكل خاص، فلا تهويل في أهدافها ولا وعود بما لا تملك القدرة على إنجازه، حتى لو كان ذلك حقاً، فلكل حق شروطه ومتطلباته حتى يتم استيفاؤه، ولا تحريف في أهدافها حول كل ما هو أساسي وثابت ومعترف بشرعيته من حقوق، كحق تقرير المصير، والعيش الحر في دولة مستقلة حرة كذلك كانت الانتفاضة واضحة في أساليبها النضالية، والتي استلهمتها من واقع شعبها وموقعه، ومما تسمح به إمكانيات هذا الشعب وطبيعة هذا الموقع، بعيداً عن تقليد أو محاكاة ثورات غيرها من الشعوب ومن دون مغالاة في الاعتماد على دعم خارجي يتحكم فيها، فالشعب كل الشعب هو أداة الانتفاضة، وتنظيماته طلائع له، وليست بديله عنه. والحجر هو سلاحها، وأمضى ما فيه يكمن فيما يرمز إليه من إصرار لا رجعة عنه في مقاومة الاحتلال، وتحت كل الظروف مهما كان الفارق في موازين القوى فالتاريخ يشهد أن التفوق في الارادة كفيل في النهاية بانتزاع النصر من التفوق في القوة لا شك أن هذا الوضوح في الأهداف والأساليب كان من أهم الأسباب التي عبأت الشعب حول الانتفاضة فدفعته ولا تزال الى تقديم أروع صور النضال، غير آبه بالتضحيات، كما جعلت من العام 1988، عام الانتفاضة فشغلت العالم وأثارت تعاطفه معه، وشدت العرب على طريق التضامن، وردت للقضية الفلسطينية مكانتها، وكرست م.ت.ف من جديد ومن موقع ميداني ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعب فلسطين، فلم يمض على اندلاع شرارتها أكثر من سبعة أشهر، عندما أعلن الأردن عن فك الروابط القانونية والادارية بين المملكة الأردنية والضفة الغربية المحتلة، وأوقف جميع مشروعات التنمية التي كان يعدها هناك، وحل جميع المؤسسات التابعة لها، ويعتبر هذا إنجازاً هاماً للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ومن أهم إنجازاتها السياسية وتحويل هذا الانجاز الى قوة دفع جديدة للنضال الفلسطيني ولهذه الانتفاضة بالذات.
وبعد مضي أكثر من مئة يوم على الحوارات والتحركات والاتصالات تمكنت قيادة م.ت.ف من وضع تصورها السياسي المستقبلي، وحددت الثاني عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، موعداً لعقد دورة طارئة للمجلس الوطني الفلسطيني، لمناقشة هذا التصور وإقراره، وسميت هذه الدورة بدورة "الانتفاضة" وفي الساعة الصفر والدقيقة الأربعين بتوقيت القدس الشريف، من يوم الثلاثاء الواقع في السادس من ربيع الثاني 1409 للهجرة الموافق للخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، تم اتخاذ أهم قرار سياسي في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها ألا وهو إقرار" وثيقة الاستقلال " بالإجماع، كما أقر المجلس بأغلبية أصوات أعضائه البرنامج السياسي لإنجاز هذا الهدف وتمكين هذه الدولة من ممارسة سلطتها الفعلية على أرضها واستندت "وثيقة الاستقلال"على خيار قيام دولة فلسطين الى الحق الطبيعي التاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعاً عن حرية وطنهم واستقلاله وانطلاقاً من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947.
ولم يفت وثيقة الاستقلال عند إيرادها للسند القانوني أن تشير الى" الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني بتشريده وبحرمانه من حق تقري المصير، إثر قرار الجمعية العامة ( للأمم المتحدة ) رقم 181 لعام 1947 الذي قسم فلسطين الى دولتين، عربية ويهودية، ثم أضافت أن هذا القرار "ما يزال يوفر شروطاً للشرعية الدولية، تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال "وقد دعمت الانتفاضة هذا التحول، بما عبرت عنه جماهيرها من تظاهرات التأييد وبما صدر عن قيادتها الوطنية الموحدة من نداءات رحبت بوثيقة الاستقلال واعتبرتها خطوة مهمة على طريق إنجاز الاستقلال الوطني، ولشهادة الانتفاضة وزنها ليس لكونها من أهم مراكز التأثير في صنع القرار الفلسطيني فحسب، بل لكونها كذلك، فكراً وتنظيماً، من نتاج ذلك المسلسل الطويل لعملية الصراع العربي الفلسطيني ضد اسرائيل وما نجم عنها من متغيرات فالانتفاضة علامة فارقة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وتاريخ م.ت.ف بالذات، فصلت بين ما قبلها وبعدها، بهذا التحول في المسيرة من حركة تحرير وطني الى حركة استقلال وطني.
ولم تأت الانتفاضة الجماهيرية العارمة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بشكل عفوي أو آني، ولم يكن حادث معبر بيت حانون "إيرز سابقاً " عند مدخل قطاع غزة والذي راح ضحيته أربعة شهداء، وسبعة جرحى آخرين، نتيجة صدمهم بسيارة عسكرية احتلالية حادثاً قدرياً لعبت الصدفة ملعبها في أحداثه، إنها حالة عداء تمتد الى أكثر من أربعين عاماً مضت وستمتد حتى تحقيق قيام الدولة المستقلة للشعب الفلسطيني الذي أنشئت على أرضه إسرائيل، لقد توجت الانتفاضة الفلسطينية أعواماً من النضال والكفاح لتختصر كل أنواع الإرهاب والقمع والبطش الاسرائيلي عبر رفض الشعب الفلسطيني للاحتلال ومناداته بأعلى صوته بسقوطه، وجاء عام 1988 كما قال عنه السيد الرئيس/ ياسر عرفات هو عام البشرى فإن هذه الانتفاضة الكبيرة بشهدائها وجرحاها ومعتقليها هم رسل هذه البشرى، وهي الخطوة الأولى على طريق إنهاء الاحتلال وطرده وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، التي هي الحل الوحيد للمأزق الإسرائيلي مثلما هي للمأزق الفلسطينيمقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي ليست حديثة النشأة ولم تبدأ مع انطلاقة الشرارة الأولى للانتفاضة في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الثامن من كانون الأول "ديسمبر" وهذه الحقيقة لا تضع الانتفاضة على قدم المساواة مع أعمال وأشكال المقاومة والرفض للاحتلال السابقة لها، وإنما لتأكيد أن تراكمات النضال القومي الفلسطيني على مدى عشرين عاماً من الاحتلال في ذلك الوقت أفضت في النهاية الى الانتفاضة المجيدة.