مدونة الاحرار : نقلا عن جريدة القبس - لم يحمل التصعيد العسكري على جبهة قطاع غزة أي مفاجأة. فطرفا التصعيد ــ إسرائيل وسلطة الأمر الواقع «الحمساوية» ــ اجتمعا على تحقيق هدف واحد، هو: منع زيارة الرئيس محمود عباس الى القطاع والحيلولة دون إنهاء حالة الانقسام بين الفلسطينيين.
ولعل عرضا موجزا لمقدمات التصعيد الراهن يوضح انه مجرد تحصيل حاصل لكلا الطرفين، بعد حذف سائر الادعاءات على ضفتي المجابهة الراهنة.
ففي الخامس عشر من الشهر الجاري نظمت حركات الشباب في الأراضي الفلسطينية مسيرات تحت شعار «الشعب يريد إنهاء الانقسام».
في غزة كما في رام الله، استنفرت السلطتان أجهزتهما الأمنية والتنظيمية، ودفعتا الى جانب الفصائل الأخرى بأكبر عدد ممكن من منتسبيها وأنصارها الى قلب هذه المسيرات.
نجاح وفشل
حركة فتح وسلطتها في الضفة الغربية أظهرت لياقة وذكاء واضحين في التعامل مع الموقف، فقد انضوت تحت شعارات المسيرات وانضبطت لهتافاتها. مر النهار في رام الله وباقي مدن الضفة بسلام، لكن لم يخل من بعض المضايقات والاحتكاكات. وختم ليلا بأن أرسل مكتب الرئيس عباس وجبة عشاء (سندوتشات فلافل) للمعتصمين في دوار المنارة وسط المدينة.
في مدينة غزة انطلقت التظاهرات، أكبر حشدا وأكثر صخبا مقارنة بمسيرات الضفة. لكن وبعد وقت قصير وقعت أولى الاحتكاكات بسبب رفع عناصر حماس راياتهم الخضراء ورفضهم رفع العلم الفلسطيني، كما رفضوا ترديد الشعار ذاته الناظم للمسيرة، وراحوا يرددون شعار «الإسلام هو الحل.. حماس هي الحل». انشطرت المسيرة الى اثنتين: حماس في ساحة الجندي المجهول، والآخرون في ساحة الكتيبة. هذا الانشقاق تخلله مواجهات سقط فيها قتلى وجرحى.
نجحت فتح في الضفة، وفشلت حماس في غزة. هذا النجاح وذاك الفشل ترجما في السياسية في اليوم التالي، عندما أعلن أبو مازن من على منبر اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية استعداده لزيارة غزة فورا لبحث موضوع تشكيل حكومة وحدة وطنية، مهمتها الأساسية التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني في غضون ستة أشهر.
المبادرة في مهدها
أمام هذا الإعلان بدت حماس مرتبكة، فالحركة أعلنت أولا ترحيبها باستجابة عباس لدعوة أطلقها (قبل يوم واحد) رئيس وزراء حكومة حماس إسماعيل هنية، بإرسال وفد فتحاوي الى غزة لاستئناف الحوار (يشك كاتب هذه السطور أن يكون الرئيس أبو مازن قد سمع بها، وإن سمع توقف عندها هو أو أي من العاملين في مقر المقاطعة).
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه بدأت حماس، بعد أن فكت مفاجأة عباس عقدة لسانها، بالعودة الى مواقعها: سحبت بيانات الترحيب عن مواقعها وصفحاتها الالكترونية، وأعادت صياغة نبأ مبادرة عباس بطريقة سلبية، وبدأ الناطقون باسمها يمحصون فيها، وختمها قياديون كبار بالتشكيك بأهلية عباس وبصدق نواياه لانجاز أي مصالحة معه. وبين هذا وذاك قالت مصادر حماس إن مكتبها السياسي في دمشق أرسل توبيخا للقادة الذين رحبوا بمبادرة عباس التي وصفتها المصادر بأنها «فخ» نصبته فتح لحماس لاستعادة غزة وسرقتها من دون ثمن أو عناء.
أما ذروة الموقف الحمساوي، بحسب المصادر ذاتها، فكان ما قام به أحمد الجعبري، رئيس «كتائب القسام» ــــ الذراع العسكرية للحركة، والحاكم الفعلي للقطاع، عندما حاصر منزل هنية وأبلغه بأنه سيحرق الأرض تحت أقدام عباس إذا ما زار غزة، وأنه ــــ أي هنية ــــ ليس مخولا بتحديد مواقف سياسية ولا بتوجيه دعوات لأحد.
مع مسيرات الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإنهاء الانقسام، ومبادرة الرئيس عباس تفاقمت أزمة حركة حماس وبدت محشورة في أضيق الزوايا، وظهرت هشاشة ادعاءاتها التي قالت فيها إن ما يجري في العالم العربي يزكي خياراتها ويساندها، فيما عباس الذي ينتمي الى النظام العربي الرسمي الآخذ في التداعي والانهيار لن يستثنيه تسونامي التغيير من المصير ذاته، في حين أن وقائع يوم الخامس عشر وسلوك حماس وأجهزتها الأمنية في ساحة الكتيبة كان تنتمي الى جنس سلوك الأنظمة العربية المتداعية، فيما تماهت حركة فتح مع الحركة الشعبية ونجحت في احتوائها واستأنفت هجومها عبر مبادرة عباس التي لاقت رواجا شعبيا، خاصة في غزة حيث تظهر الشقوق والصدوع واضحة في شعبية حماس وسلطة الأمر الواقع التي فرضتها هناك.
الصواريخ للتنفيس
هذا المأزق المتفاقم من جهة، وحاجتها الى وقت مستقطع بانتظار مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في مصر في الحكم دفع حماس، وعلى الأخص جناحها العسكري وقيادتها في دمشق، الى الأخذ بأسهل الخيارات، ولكن أكثرها كلفة على الشعب الفلسطيني، وهو تصدير الأزمة وتنفيسها باتجاه إشعال الجبهة العسكرية، واستعادت الخطاب ذاته عن المقاومة.
فبعد أن كان إطلاق الصواريخ خيانة، تحول بقدرة قادر الى مقاومة. وأطلقت القسام الأسبوع الماضي 50 صاروخا دفعة واحدة باتجاه جنوب إسرائيل، رغم أن الاعتداءات الإسرائيلية لم تتوقف يوما، في حين صمتت صواريخ حماس اشهرا. عند هذا الحد يصير الاستنتاج واجبا أن إطلاق الصواريخ إياها كان في واقع الحال بمنزلة استدعاء صريح لردود فعل إسرائيلية عنيفة، وتسخين جبهة غزة بما هو مخرج وهروب للأمام من استحقاقات مطلب «الشعب يريد إنهاء الانقسام».
ومنعا لأي سوء فهم، وقصر مسؤولية ما يجري على عاتق حماس، لا بد من القول إن دعوة الأخيرة نزلت بردا وسلاما على إسرائيل ورئيس حكومتها بنيامين نتانياهو، فهذا الأخير أيضا يعيش مأزقه. فرد فعله على مبادرة الرئيس عباس لزيارة غزة لإنهاء الانقسام كانت ساخطة، واعتبرها بمنزلة مفترق طرق، على عباس أن يختار بين إسرائيل وحماس.
إسرائيل تترصد الفرص
فالانقسام الفلسطيني الذي اعتبره الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيرس في الذكرى الستين لقيام إسرائيل واحدا من أهم ثلاثة أهداف إستراتيجية تحققت خلال العقود الستة الماضية، يعتبر ذخرا استراتيجيا لا يمكن التفريط به. وبالتالي محظور على عباس إعادة توحيد الأراضي الفلسطينية أو إنهاء الانقسام الذي تستخدمه إسرائيل كذريعة في تخريب عملية السلام. ناهيك عن أنه يحول دون الوحدة الجغرافية لهذه الأراضي، وتاليا يحول دون قيام دولة فلسطينية موحدة ومتواصلة.
ثم أن نتنياهو يعاني من عزلة دولية إثر وقف المفاوضات وتعثر عملية السلام بسبب الاستيطان، في وقت يحقق فيه الفلسطينيون نجاحا سياسيا ودبلوماسيا يعتد به على الساحة الدولية. ويمكن لهذا النجاح أن يفضي، في حال استمراره وتثميره، الى اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية على حدود 67 ومنحها مقعد دولة كاملة العضوية في المنظمة الدولية في شهر سبتمبر المقبل.
ثالث الأسباب التي تدفع إسرائيل للتصعيد هو ما يجري من تغييرات عاصفة في العالم العربي، وبخاصة الثورة في مصر التي تربطها بها معاهدة سلام ليس بالضرورة أن يكون استمرارها مضمونا، وبالتالي قد تعمد تل أبيب لإجراء تغييرات احترازية في ظل هذه الفوضى قبل أن يستفيق العالم العربي من صدمة التغيير .
خلاصة: إن التصعيد الراهن على جبهة غزة يجري وفق تواطؤ إرادة حركة حماس وإسرائيل، وتقارب الأسباب والأهداف.
ليست هناك تعليقات: